تحقيق معنى النبي الأمي
كتبه طارق الحمودي
مناقشة للأستاذ جمال السيد درة في مقاله
(النبي الأمي, حقيقة المعنى السائد وإعجاز القرآن)
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ أن تفتحت عيون الفهم عندنا ونحن نعتقد أن معنى الأمية
الموصوف بها نبينا صلى الله عليه وسلم أمية الكتابة والقراءة, على أنها معجزة
نبوية تمنع المبطلين من دعوى تأليف النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن والوقوف عند
ربانية مصدره المؤسسة للحجة الرسالية الإسلامية, ولم نكن نعتقد أن إجماع العلماء على معنى الأمي كان
عن تقليد ومخاطرة, بل كنا نؤمن أن ما ذهبوا إليه هو ما تقتضيه اللغة العربية وما
تؤكده السياقات والقرائن المصاحبة للنصوص المؤسسة مجتمعة متكاملة في هذا الباب,
والحمد لله رب العالمين.
يلفت نظر المتتبع للكتابات الجديدة والمقالات الموسومة
بالتجديد الفكري - زعموا - أن التسرع والمغامرة سمة كاشفة لازمة, ومن ذلك محاولة
الأستاذ جمال السيد درة وهو كاتب لا أعرفه شخصيا لكنني وقفت له على هذه المغامرة
العجيبة.
اختار الكاتب أن تكون المنطقة الفكرية التي تجري فيها أحداث
المغامرة مجالا يخص النبوة والإعجاز, وهو تحقيق معنى الأمية التي وصف بها النبي
صلى الله عليه وسلم في الوحيين, وقد ذهب الكاتب إلى أن معنى (النبي الأمي)
(النبي العربي) في مقابل أهل الكتاب, وأورد ما حاول به التأسيس النصي
واللغوي لذلك, واستجلب معلومات ظن في وجهة نظره أنها أصل مؤسس أو مؤكد مؤنس لاختياره,
وسأذكر ذلك وأناقشه مناقشة علمية مستوفية للشروط الأدبية المناسبة, إذ أبدى الكاتب
في طرحه أدبا واحتراما لمخالفه, وعرضه معرض التجرد والنصيحة,ولذلك يستحق مني
المعاملة بالمثل مع الاحترام اللازم والتقدير.
استبعد
الكاتب أن يكون معنى الأمية النبوية أو الأمية العربية عدم القراءة والكتابة ,
ورجح أن يكون المعنى (من ليس من أهل الكتاب) واحتج بقوله تعالى (وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) وقال: [قسمت
الآية الناس إلى قسمين الأول (الذين أوتوا الكتاب)، والقسم الثاني (الأميين), أي
أن الأميين هم (من هم غير الذين أوتوا
الكتاب)] ثم أردف ذلك بكون اليهود يستعملون هذا المصطلح للدلالة على غيرهم ممن
لم يؤتوا كتابا مثل كلمات(الأمم – الأمميون – الأممي) في نصوصهم التراثية,
قاصدا ممثالة المصطلح القرآني(الأمي) في مثل قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْنَا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وقال : [ فقولهم ليس علينا في الأميين سبيل لا
يمكن أن تفهم بأنها تعني ليس لنا على من لا يعرف القراءة والكتابة سبيل، أو ليس
لنا على العرب سبيل؛ لأنهم كانوا يتعاملون مع أمم كثيرة غير العرب] وحرص
الكاتب على أن لا يفرغ المصطلح من دلالته الإعجازية فقال: [واستخدام القرآن
الكريم كلمة (أميين) هو تعبير معجز يؤكد للمشككين، بأن القرآن نزل من عند الله
تعالى، بدليل أن هذا التعبير المتعارف عليه بين أهل الكتاب لم يكن معروفا للنبي
ولا لقومه ولا للمفسرين في القرون الأولى للإسلام] ثم نصح الكاتب الهيئات
العلمية اللغوية باستدراك المعنى المتوارث وإعادة النظر فيه. هذا خلاصة ما عرضه
الكاتب والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
يغفل
كثير من أمثال الأستاذ جمال عن شرط أساس في أمثال هذا النوع من البحوث المصطلحية,
وهو شرط الاستقراء, فالحريص على التدقيق والتحقيق يؤكد على ضرورة الاستقراء الجمعي
ثم التحليلي من المظان المعروفة المتوفرة, وأظن أن الكاتب خانه تحقيق الشرط فضلا
عن استيفائه.
سنبدأ
أولا بالجواب على سؤال مبدئي وهو: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا
يكتب؟
والجواب
أن الله تعالى قال فيه: (وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ (48) العنكبوت. والآية ظاهرة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعدم القراءة
والكتابة معا,ولذلك اتفق المفسرون وأهل اللغة منهم خاصة على ذلك, فروى الطبري في
الجامع عن
قتادة قال:( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) قال: كان نبي الله لا
يقرأ كتابا قبله، ولا يخطه بيمينه.
وقال ابن
كثير : (أي: قد لبثت في قومك - يا محمد -ومن قبل أن تأتي
بهذا القرآن عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف
أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب)
قال الطاهر ابن
عاشور
: ومعنى (ما كنت تتلو من قبله من كتاب)
أنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد : هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من
قبل .و (لا تخطه) أي لا تكتب كتابا ولو كنت لا تتلوه ، فالمقصود نفي حالتي التعلم
، وهما التعلم بالقراءة والتعلم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ
كتابا ولا يعرف يكتب لا يعد أميا كالعلماء العمي ، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه
ولا يحفظ علما لا يعد أميا مثل النساخ .
فثبت بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكن يعرف القراءة ولا الكتابة
قد
يقول قائل : ليس هذا موضع الخلاف, بل موضع الخلاف بيان معنى (الأمي),
والجواب أنه لا يعرف في اللغة أن يكون معنى الأمي غير الذي لا يعرف القراءة ولا
الكتابة, وأما الزعم بأن معنى الأمي أي العربي غير أهل الكتاب فالجواب عليه في
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ
إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) (البقرة) فوصف الله تعالى بعض
أهل الكتاب بالأمية, فلم يبق للعربي اختصاص بالوصف إلا تغليبا.وعلى هذا قول
العلماء المحققين.فروى الطبري عن إبراهيم قال: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب)، قال: منهم
من لا يحسن أن يكتب.
وروى عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(ومنهم
أميون) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود
ومن أدلة الوحي على هذا قوله عليه الصلاة
والسلام : (نحن أمة أمية, لا نكتب ولا نحسب)
فبين النبي صلى الله عليه وسلم (الأمية)
بأنها عدم الكتابة والحساب, وهذا كاف شاف.فنحن أمة - في أمور العبادات كالأمور المتعلقة
بالشهر - أمة أمية لا نحتاج إلى حساب أو كتابة, إنما نكتفي بالمشاهدة والرؤية,
فليس كل المسلمين يعرفون الحساب , فلا تكليف بما لا يطاق في ديننا !
قال أبو العباس القرطبي في المفهم : (لم نكلف
في تعرف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة ، وإنما
ربطت عباداتنا بأعلام واضحة ، وأمور ظاهرة) فـ(الواجب في هذا المقام إجراء الفهم
في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيره) كما قال
الشاطبي في الموافقات (ج2/ص87)
وهذا لا يعني المنع من تعلم الحساب
والكتابة, بل المعنى عدم تكلفها في مثل تلك الأمور التعبدية.ولذلك كان الوصف
النبوي للأمة بذلك وصفا بالأمية النسبية المقيدة.
ومثله
ما رواه الإمام أحمد(23446/مؤسسة قرطبة) والترمذي(2944) عن عفان، عن حماد، عن عاصم،
عن زر، عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيت جبريل عند أحجار المراء،
فقلت: يا جبريل،
إني أرسلت إلى أمة أمية؛ الرجل، والمرأة، والغلام،
والجارية، والشيخ الفاني، الذي لم يقرأ كتابا قط فقال: إن القرآن أنزل على سبعة
أحرف. ويروى عن أبي بن كعب!
وأما
مماثلة كلمة (الأمي والأميين) لكلمة (الأمميين ) عند اليهود فلا
دليل عليها بل الوضع اللغوي يأباه. فالأممي نسبة إلى الأمم أي الأمم غير أمة
اليهود, وأما الأمي فنسبة إلى الأم أو غيرها كما حققه اللغويون, وقواعد الاشتقاق
والنسبة محكّمة محكمة.
وقوله
تعالى حاكيا كلام اليهود: (لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) خرج مخرج الغالب على
العرب, وهو أمية القراءة والكتابة.
وخلاصة
هذا أن معنى (أمي) الذي لا يعرف الكتابة والقراءة, وبما أن الغالب على
العرب ذلك - إذ قد عرف في العرب من كان يكتب ويقرأ – فإنهم وصفوا بالأميين, ففهم
بعض الناس أن ذلك وصف في مقابل أهل الكتاب,مع أنه قد وصف بعضهم بالأمية كما مر. فالنبي
الأمي النبي الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة, وإلا لوجد المبطلون حجة في اتهامهم
النبي صلى الله عليه وسلم بتأليف القرآن .والله أعلم.